فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولفظ مسلم: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سَوْءَةِ بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يومًا يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثَوْبي حَجَرُ ثوبي حَجَرُ حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سَوْءة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نُظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفِق بالحجر ضرْبًا» قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر نَدَبٌ ستةٌ أو سبعةٌ ضَرْبُ موسى بالحجر.
فهذا قول.
وروي عن ابن عباس عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آذوْا موسى بأن قالوا: قتل هارون؛ وذلك أن موسى وهارون خرجا من فَحْص التِّيه إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته، وكان ألين لنا منك وأشدّ حُبًّا.
فآذوْه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلّتهم على صدق موسى، ولم يكن فيه أثر القتل.
وقد قيل: إن الملائكة تكلّمت بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرَّخَم، وأنه تعالى جعله أصم أبكم.
ومات هارون قبل موسى في التِّيه، ومات موسى قبل انقضاء مدّة التِّيه بشهرين.
وحكى القشيريّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله، ثم مات.
وقد قيل: إن أذِيّة موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون.
والصحيح الأوّل.
ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرّأه الله من جميع ذلك.
مسألة:
في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخوله في الماء عُريانًا دليل على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور.
ومنعه ابن أبي لَيْلَى واحتجّ بحديث لم يصحّ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلو الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرًا» قال القاضي عياض: وهو ضعيف عند أهل العلم.
قلت: أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبد الأعلى أن الحسن بن عليّ دخل غَديرًا وعليه بُرد له متوشحًا به، فلما خرج قيل له، قال: إنما تسترت ممن يراني ولا أراه؛ يعني من ربي والملائكة.
فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؟ قيل: لأنه صدر عن الحجر فعل مَن يعقل.
و«حَجرُ» منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29].
و«ثوبي» منصوب بفعل مضمر؛ التقدير: أعطني ثوبي، أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه.
قوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا} أي عظيمًا.
والوجيه عند العرب: العظيم القدر الرفيع المنزلة.
ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئًا أعطاه إياه.
وقرأ ابن مسعود: وَكَانَ عَبْدًا لِلَّهِ وقيل: معنى {وَجِيهًا} أي كلمه تكليمًا.
قال أبو بكر الأنباريّ في كتاب الرد: زعم مَن طعن في القرآن أن المسلمين صحّفوا {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وِجِيهًا} وأن الصواب عنده {وَكَانَ عَبْدًا لِلَّهِ وَجِيهًا} وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه، وذلك أن الآية لو حملت على قوله وقرئت: {وكان عبدًا} نقص الثناء على موسى عليه السلام؛ وذلك أن {وَجِيهًا} يكون عند أهل الدنيا وعند أهل زمانه وعند أهل الآخرة، فلا يوقف على مكان المدح، لأنه إن كان وجيهًا عند بني الدنيا كان ذلك إنعامًا من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله.
فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله: {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا} استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله، فمن غيّر اللفظة صرف عن نبيّ الله أفخر الثناء وأعظم المدح.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} أي قصدًا وحقًّا.
وقال ابن عباس: أي صوابًا.
وقال قتادة ومقاتل: يعني قولوا قولًا سديدًا في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يحلّ.
وقال عِكرمة وابن عباس أيضًا: القول السداد لا إله إلا الله.
وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه.
وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره.
وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين.
وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض.
والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك.
وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافًا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين.
ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب؛ وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} أي فيما أمر به ونهى عنه {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى}.
قيل نزلتْ في شأنِ زيدٍ وزينبَ وما سُمع فيه من قالة النَّاسِ {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} أي فأظهرَ براءتَه عليه الصلاة السَّلامُ ممَّا قالُوا في حقِّه أي من مضمونِه ومؤدَاه الذي هُو الأمرُ المعيبُ، وذلكَ أنَّ قارونَ أغرَى مومسةً على قذفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنفسِها بأنْ دفعَ إليها مالًا عظيمًا فأظهرَ الله تعالى نزاهتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ بأنْ أقرتِ المومسةُ بالمُصانعةِ الجاريةِ بينها وبينَ قارونَ، وفُعلَ بقارونَ ما فُعلَ كما فُصِّل في سُورةِ القصصِ، وقيل أتَّهمه ناسٌ بقتلِ هارونَ عند خروجِه معه إلى الطُّورِ فماتَ هُناك فحملتْهُ الملائكةُ ومرُّوا به حتَّى رأَوه غيرَ مقتولٍ وقيل أحياهُ الله تعالى فأخبرَهم ببراءتِه وقيل: قذفُوه بعيبٍ في بدنِه من برصٍ أو أُدْرةٍ لفرطِ تسترِه حياءِّ فأطلعهم الله تعالى على براءتِه بأنْ فرَّ الحجرُ بثوبِه حينَ وضعَه عليه عند اغتسالِه والقصَّةُ مشهورةٌ {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا} ذَا قُربةٍ ووجاهةٍ. وقُرئ وكانَ عبدُ اللَّهِ وجيهًا {يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} أي في كلِّ ما تأتُون وما تذرُون لاسيما في ارتكابِ ما يكرُهه فضلًا عمَّا يُؤذى رسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَقُولُواْ} في كلِّ شأنٍ من الشئون {قَوْلًا سَدِيدًا} قاصِدًا إلى الحقِّ من سَدَّ يَسِدُّ سَدادًا يقال سَدَّدَ السَّهمَ نحوَ الرَّميةِ إذا لم يعدلْ به عن سمتِها والمرادُ نهيُهم عمَّا خاضُوا فيه من حديثِ زينبَ الجائرِ عن العدلِ والقصدِ {يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} يُوفقكم للأعمالِ الصَّالحةِ أو يُصلحها بالقَبُولِ والإثابةِ عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويجعلُها مكفرةً باستقامتِكم في القولِ والعملِ.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الأوامرِ والنَّواهِي التي مِن جُملتِها هذه التكليفاتُ {فَقَدْ فَازَ} في الدَّارينِ {فَوْزًا عَظِيمًا} لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُبلغ غايتُه. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى}.
قيل نزلت فيما كان من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلى الله عليه وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} أي من قولهم أو الذي قالوه وأيًا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه، واستعمال الفعل مجازًا عن إظهاره، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع، فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السلام.
وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فهي فبرىء من قولهم على أن {برأه} بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودًا بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لابد من ملاحظة ما ذكر، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السلام عيب في بدنه.
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام كان رجلًا حييًا ستيرًا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السلام خلا يومًا وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأء الله مما قالوا}».
وقيل: إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السلام من قتل هارون، أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبًا لنا منك وألين فآذوه، من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السلام بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم، وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما نام أخذ هارون الموت فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه، وقيل: ما نسبوه إليه عليه السلام من الزنا وحاشاه، روى أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها ودفع إليها مالًا عظيمًا فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص، ويبعد هذا القول تبعيدًا ما جمع الموصول، وقيل: ما نسبوه إليه من السحر والجنون، وقيل: ما حكى عنهم في القرآن من قولهم: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 4 2] وقولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} [البقرة: 1 6] وقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] إلى غير ذلك، ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر.
{وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا} أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عز وجل، وفي معناه قول قطرب: كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد: كان مقبولًا، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيهًا مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئًا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر، وقيل: وجاهته عليه السلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله، وقرأ ابن مسعود.
والأعمش وأبو حيوة {عَبْدًا} من العبودة {لِلَّهِ} بلام الجر فيكون عبدًا خر كان ووجيهًا صفة له وهي قراءة شاذة، وفي صحة القراءة الشواذ كلام.
قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان {عَبْدُ الله} على قراءة ابن مسعود ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقًا، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال صاحب الروضة: وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان، وههنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} في كل ما تأتون وتذرون لاسيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلًا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم {وَقُولُواْ} في كل شأن من الشؤن {قَوْلًا سَدِيدًا} قاصدًا ومتوجهًا إلى هدف الحق من سد يسد بقكسر السين سدادًا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته، والمراد على ماقيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسلام، وعن مقاتل وقتادة أن المعنى وقولوا قولًا سديدًا في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام وزيد وزينب، وعن ابن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله، وقيل: هو ما يوافق ظاهره باطنه، وقيل: ما فيه إصلاح، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى.
{يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} بالقبول والإثابة عليها على ما روى عن ابن عباس ومقاتل، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويَجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات {فَقَدْ فَازَ} في الدارين {فَوْزًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته.
قال في الكشاف وهذه الآية يعني {يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} [الأحزاب: 70] إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام لأن وصفه بوجهاته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا}.
لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلم، من استحقاقه اللعنة في الدارين، تعريضًا بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب، التي سيقت السورة لأجلها، ختمها أيضًا بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام، بتنقيصه تارة، وقلة الأدب معه طورًا، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة، كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم، مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته، فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم، ورماهم بأفانين العقوبات، ولحقتهم المخازي، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم، ونزه مقامه عن تنقيصهم، بأن حقق فضله، وأسمى منزلته، وآتاه الوجاهة- وهي العظمة والقرب- عنده.
وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولحقهم الدمار، وشرح لنبيه صدره، ورفع له ذكره، وأعلى منزلته، وفخم وجاهته، ما تعاقبت الأدوار، ويقرب من هذه الآية، في المعنى والإشارة، قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]، وفيهما كلتيهما تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما، وكثيرًا ما كان يقول صلّى الله عليه وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره: «رحمة الله على موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».